- Refaat Writes Back
- Posts
- امرأة في زمن الإبادة
امرأة في زمن الإبادة
دومًا كون المرأة امرأة يجعل حياتها أصعب، فما بالكم بأن تكون هذه المرأة تعيش في بلدٍ محتل وفي بقعةٍ محاصرة منذ ثمانية عشر عام_ كغزة.ل
كأي أمٍ عاملة كانت تنقضي حياتي في محاولة الموازنة بين كوني أمًا لثلاثة أطفال ما بين العاشرة والرابعة وبين كوني معلمةً لمئات الطلاب الصغار؛ كان هذا الأمر شاقًا لدرجة أنني كنت أنام بلا أحلام ولا أفكار كل ليلة من شدة التعب. وكان مما يجعل الأمور أصعب هو وجود الاحتلال الذي كان ينغص علينا تفاصيل عديدة في حياتنا، فمثلًا كنا نعيش وفق جدولٍ محدد لساعات الكهرباء المسموحة يوميًا لنضطر إلى برمجة حياتنا وإنجاز مهامنا وفقًا لمزاج ساعات الكهرباء يوميًا. ولم أكن أعلم أن هذا التنغيص سوف يصبح حلما من أحلامي، فالأسوأ لم أعشه بعد.ل
بداية الإبادة
كصباح يوم عملٍ اعتيادي كنت أعد حقيبة ابني "يامن" استعدادًا لذهابه إلى الروضة، ليباغتني عددٌ كبير جدًا من الصواريخ المنطلقة في سماء غزة. للحظةٍ أدرك عقلي أنها الحرب لكن دون أي تفاصيل، لنتسمر بعدها على شاشة التلفاز وتتوارد الأخبار التي كانت ضربًا من المستحيل يومًا ما. بكيّنا ونحن نتخيل تحرير فلسطين كاملة والعودة إلى كل الأراضي التي حُرمنا منها. ليبدأ بعدها بساعاتٍ قليلة قصف مدينتي، وأدركت أن ثمن ساعات الحرية التي عشناها سيكون باهظًا.ل
بدأت ليالي الإبادة، مربعات سكنيّة بأكملها كانت تحترق أمام أعيننا، كنت أحضن أطفالي طوال الوقت، أحاول تشتيت انتباههم عمّا نعيشه ولكن كيف؟ قالت جمانة_ ابنتي ذات التسعة أعوام: "هذا صاروخٌ جديد يا ماما، صوته يشبه الأفعى عندما يسقط!“لا
بعد خمس ليالٍ كانت السماء فيها حمراء على الدوام من شدة القصف، شهدنا تهجير سكان منطقة "الكرامة" أمام عيوننا، و كنا ندرك أن منطقتنا هي التاليّة.ل
بدأت في اليوم السادس إعداد حقائب تحوي أهم الأساسيات استعدادًا للانتقال إلى مكانٍ أكثر أمنًا. وكانت هذه أصعب مهمة قمت بها في حياتي، فكيف يمكن أن أضع بيتي بأكمله في حقيبة؟
امرأةٌ بنصف قلب
كنا نعيش في ظل انقطاع تام للكهرباء وكنت أعتمد بشكل كامل على الأخبار التي تبثها الإذاعات المحليّة على الراديو. في ذلك المساء سمعت خبرًا عن قصفٍ قريب من المنطقة التي تقطنها أختي. قلبي ارتجف.ل
هاتفتها لم ترد، ولم يرد زوجها أيضًا فأيقنت أن مكروهًا أصابهم. من السادسة مساءً وحتى العاشرة ليلًا ظللت أنتظر سماع الخبر. جاءنا اتصالٌ من أحد الأقارب. لا أذكر ماذا حصل بعدها بالضبط. هرولت إلى مستشفى الشفاء علّني أراها. لم يتم انتشالها أبدًا. فقط أشلاء. لم أودعها، لم أدفنها، لم نُقِم بيت عزاءٍ لها وسط هذا الموت العظيم. ظللت أهذي ليلتها. ومنذ تلك اللحظة أكملت حياتي بنصف قلبٍ فقط.ل
النزوح درب الآلام
في الثالث عشر من أكتوبر تلبّدت سماء مدينة غزة بمناشير جيش الاحتلال ليطلب فيها مغادرة المدينة والتوجه إلى ما يسمى "المناطق الآمنة" في جنوب القطاع. تلا ذلك اتصالات على هواتفنا النقّالة تطلب منّا الإخلاء أيضًا. كنت وقتها نازحةً في مخيم الشاطئ حيث يقطن أهلي، يومها وقف الناس حيارى في الأزقة وملأ الذهول وجوههم. أعقب ذلك إعلان جميع المؤسسات الدولية نزوحها إلى جنوب القطاع، مما بث الذعر في النفوس. بدأ الناس بالاستجابة للإخلاء لتصبح غزة أشبه بمدينة أشباح تنتشر فيها النفايات ورائحة الموت والخوف أينما نظرت. كانت ليالي من الرعب الخالص وانقطاعٍ تام عن العالم حيث بدأ التمهيد لاجتياح المخيم، واستمر القصف برًا وبحرًا وجوًا. كنّا نسمع الأخبار فقط من خلال الراديو. فُجعنا بخبر مجزرة المعمداني، واستمعنا للمؤتمر الصحفي الذي عُقد بين جثث الأطفال ونحن نبكي. أصابت أطفالي الحمى من شدة الخوف، واقترب منّا الخطر أكثر. رفض أهلي مغادرة منزلهم واختاروا البقاء، ودّعتهم للنجاة بأطفالي.ل
إلى رفح كان نزوحنا حيث الصحب والأحبّة. استقبلونا بكامل الترحاب ولكن طعم المرارة لازمني منذ غادرت غزة. كان القصف عنيفًا هناك أيضًا مما بدد كذبة "المناطق الآمنة“ منذ الساعات الأولى، وكانت الأحداث المروعة لا تتوقف عن الورود من غزة. تم اجتياح مخيم الشاطئ وحصار أهلي وانقطاع أخبارهم، كل هذا كان يحدث وأنا لا أجد أختًا تؤنسني ولا أمًا تحضنني. بدأت الانعزال عمّن حولي تدريجيًا، والهرب بالنوم ولكن صغاري كانوا بحاجتي وكان خوفهم دافعي الأكبر لابتلاع أحزاني ومواصلة تلبية احتياجاتهم.ل
كَثُر النازحون في البيت الذي لجأت إليه لنصبح ما يقارب الثلاثين عائلة في بناية واحدة. واشتد الحصار أكثر حيث توقفت المخابز عن العمل، فصار مطلوبًا منّا نحن النساء أن نعد الخبز والطعام بحصص محددة لكل فرد، حتى الماء الصالح للشرب كان يجب أن نحدده. وبسبب انقطاع التيار الكهربائي لجأنا إلى الغسيل اليدويّ كجداتنا. ولتتفاقم الأمور أكثر انقطع غاز الطهي لنلجأ إلى الخبز والطبخ على الحطب. كان إيقاد النار معجزة يصاحبها العديد من المهمات. وبسبب عدم توافر الثلاجة كان صعبًا المحافظة على الطعام أو الخبز الزائد. أذكر أنني في أحد الأيام اضطررت لمسح العفن عن رغيف الخبز وأكله، حيث لا بديل! وبالتدريج انقطع السكر والخميرة والخضراوات والفواكه لتصبح مهمّتي الآن إيجاد البدائل من العدم. أشتهى أطفالي أبسط أنواع الطعام الطازج، ولكن لم نجد سوى المعلبات لنتناولها.ل
في النزوح أيضًا انعدمت الخصوصيّة: عاشت كل خمس عائلات تقريبا في شقة يفصلنا عن بعضنا ستارة! وكان أمرًا صعبًا علينا بالذات نحن النساء أن نستخدم الحمام أو نستحم وقتما نشاء، ناهيك عن عدم توافر الماء في الخزانات ولجوءنا إلى الانتظار لساعات في طابورٍ طويل لتعبئة الماء ثم نقله وتقسيمه ليكفينا طوال اليوم.ل
من معلمة إلى امرأة المهام المتعددة
بالتدريج تحوّلت من معلمةً لمئات الطلاب الصغار، إلى أم متفرغة بالكامل لمهام النزوح من إعداد الخبز صباحًا ثم توفير الماء بعدها ثم إيقاد النار لإعداد الطعام ثم غسل الأواني ثم غسل الملابس ثم الاستماع إلى مخاوف أطفالي ثم تهدئتهم كلما سمعنا قصفًا أو خبرًا. كل هذا كنت أقوم به وأنا أتابع أخبار تدمير مدينتي يومًا بعد يوم مع انقطاع أخبار أهلي تمامًا عني. كنت أروي قصصًا من عالم الخيال لأطفالي ليناموا، بينما أشاهد غزة بأكملها تحترق على شاشة التلفاز في بيت جيران النزوح.ل
وبدأ الشتاء لتصبح كل الأمور الشاقة أصعب فأصعب حيث أصبحت أغسل الملابس بالمياه الباردة حتى تشققت يداي. وصرت أسخن الماء على النار حتى نستحم. كنا ننزح في غرفةٍ بلا زجاج على النافذة فقد تهشّم أثناء قصف أحد المنازل القريبة. قضيت ليالي الشتاء على فراش على بلاط الأرض مباشرة أحتضن صغاري لأحظى ببعض الدفء من أجسادهم الصغيرة وببعض الأمن من كل الرعب الذي أعيشه. وكنت أحمد الله على أنني أوفر حظًا من النازحين في الخيام أو مراكز الإيواء.ل
وليزداد الأمر صعوبة بدأت الأمراض المعديّة بالانتشار لأصبح أيضًا طبيبةً وممرضة خوفًا من التقاط عدوى لو زرت المستوصفات القريبة.ل
وحين طال زمن الإبادة اخترت أن أعود إلى مهنتي الأولى وأعلم أطفالي ورفاقهم في النزوح ما فاتهم في سنتهم الدراسيّة.ل
ما تبقى مني
كما فقدت غزة معالمها، فقدت أنا ومعظم نساء غزة معالمنا أيضًا. كل ما عشناه من أهوال بدأ يظهر جليًا على أجسامنا وصحتنا ونفسيتنا. في ليلة استشهاد أختي شاب شعري الأسود مرةً واحدة، ثم بدأ في التساقط رويدًا رويدًا. صديقاتي في الشمال قاموا بقص شعورهنَّ الطويلة لعدم توافر الماء للاستحمام وكحلٍ أخير ضد القمل.ل
كنت على الدوام مرهقة من سوء التغذية وقسوة المهام، لا أملك الوقت للنظر إلى وجهي في المرآة المكسورة التي توفرت لي في النزوح. أرتدي ثيابًا لا تشبهني وأعيش حياةً لم اعتدها. لا أملك لا الوقت ولا الرفاهيّة للاعتناء بنفسي كما يجب. ولا أريد الحديث عن آلام الظهر واختلال موعد الدورة الشهيرة وإصابتي الدائمة بالأرق والخوف من كل السيناريوهات المحتملة لموتي أنا وعائلتي. كنت أنتظر المساء كي أبكي وحين أظن أنني وحدي من يبكي، يأتيني صوت نشيجٍ مكتوم من غرفة نزوحٍ مجاورة. وأتساءل: ما هو حزني لاستشهاد أختٍ واحدة أمام فقد عائلةٍ بأكملها؟ وما هو حزن أرملةٍ فقدت زوجها مقابل حزن أرملةٍ وثكلى وابنة شهداء؟ وهل حزن فقد الأحباب الذين تأكدنا من استشهادهم أصعب أم حزن اختفاء الأحباب دون أثر هو الأشد وطأةً على القلب؟
في الصباح أزيح الدموع وأعود لقسوة النجاة مجددًا.ل
لا شيء يشبه الخيمة
بعد أشهر طويلة من الترقب بدأ اجتياح رفح، كنت حتى تلك اللحظة خارج المثلث الذي رسمه لنا الاحتلال: الخيمة، السجن، القبر. لكن لم يكن هناك مفرٌ من نزوحٍ جديد إلى خيمةٍ أمام شاطئ البحر.ل
اضطررنا لشراء خيمة، وكان من المفروض أن تكون الخيمة مجانيّة لكن اشتريناها بما يعادل 700 دولار أمريكي. كان مكتوبًا في الإعلان أنها خيمة نرويجيّة لأتفاجأ بعد نصبها بأن حكومة النرويج استعانت بالمساعدات الألمانية، ليمدَّ علم ألمانيا القابع فوق الخيمة لسانه لي كلمّا أوقدتُ نارًا، كلما بكيّت قهرًا، كلما ضاق هذا العيش أكثر.ل
خيمة النزوح في الصيف هي صورةٌ مصغّرة عن الجحيم حيث لا يحتمل الحرارة داخلها إنسيٌ في النهار. لا نجد سوى الماء المالح للاستعمال وهو ما أفسد كل شيء. بدءًا بأجسادنا وجلودنا التي تتقشر من الاستحمام والغسيل وتنظيف الأواني بالماء المالح، نهايةً بالأواني و الملابس التي يكسوها الملح فلا نذوق الماء إلا مالحًا، ولا تبدو الثياب سوى مهترئةً حتى لو كانت نظيفة.ل
الغاز هنا شحيح جدًا مما لا يترك المجال أمامنا إلا لإيقاد النار للطبخ وتسخين الماء. لو جرّب أحدكم إيقاد النار في ظهر يومٍ صيّفي أمام هواء البحر سيدرك تمامًا أن هذا الأمر لا يمكن تجربته مرتين، لكننا كل يوم نكررها لنأكل! كل يوم تلسع الحرارة أطراف أصابعنا، ونختنق برائحة احتراق الحطب، وتدمع عيوننا من دخان النار. الأواني يكسوها هباب أسود يجعل الإمساك بها أو تنظيفها أيدينا سوداء لساعات. وصار أمرًا طبيعيًا أن نحس برملةٍ في الطعام طارت مع الهواء لتستقر في غداء اليوم. نمضغها ونبتلعها كما نبتلع قهرنا كل يوم.ل
في الليل يتحول هذا الجحيم إلى هواء باردٍ ينخر الجسد، يصيب الأطفال بالأمراض، ونتجاوز الليلة لنجد أنفسنا صباحًا غارقين في عرقنا من حمّ الشمس فوق الخيمة!ل
ثم ماذا؟ يعاد اليوم كيوم أمس كيوم غد.ل
وماذا بعد؟ نسمع أخبار الصفقة كحلمٍ، لا نصدّق ولا نكذّب. فلا هدنة عندي أهم الآن من هدنتي مع الذباب قبل النوم؛ ولا صفقة أهم من صفقة تعبئة خزّان الماء بماءٍ حلو بدلًا من المالح!ل
في ضوء كشافٍ خجول أنظر إلى وجوه أطفالي النائمين، وأفكر بهذا العالم المجنون الذي لا زال يتردد في إيقاف هذه الإبادة، يجتمعون ويتآمرون ضد وجوه صغارنا الوديعة. ما الذي يريده هذا العالم من صغار غزة بعد أن رأى أشلائهم ولحمهم الحيّ مفتتًا؟ بعد أن رأى العالم كيف تُرك المرضى منهم وحيدين في مستشفى الأطفال حتى الموت جوعًا وخوفًا؟ بعد أن حوصر الخدج منهم كما يُحاصر أقوى الرجال؟ بعد أن قُتل الأجنّة منهم في أرحام أمهاتهم دون رحمة؟
ماذا بعد؟
لوهلةٍ كادت الحياة في الخيمة أن تهزمني تمامًا حتى ذهبت في أحد الأيام إلى السوق لابتياع بعض الخضراوات. كان الزحام يومها لا يُطاق وكان كل شيءٍ حولي رماديًا وبائسًا، حتى رأيتُها من بعيد: امرأةً مثلي وجهها محروقٌ من أشعة الشمس كوجهي، مما يجعلني متأكدةً من أنها نازحةٌ في خيمةٍ كخيمتي أيضًا. كانت تحتضن شتلة ياسمين وكأنها ابنٌ عزيز. تحضننها وتمضي لتعود لخيمتها، لتزرعها على بابها! أملٌ ملأ قلبي وآنسني من بعد وحشة ،وفجأة قررت أن أتحدى الخيمة بكل قسوتها، فبتُّ أعجن خبزًا طازجًا ونظيفًا كل صباح_ رغم أنف الذباب. وأغسل الثياب وأنشرها في الشمس وأتباهى بنظافتها. وأطبخ الطعام بحب رغم المرارة في قلبي. أُعلِّم أطفالي مهارات الحياة الأساسيّة وأجيب عن كافة تساؤلاتهم. وأعدُّ كأس القهوة السريعة التحضير على الحطب وأشربه أمام شاطئ البحر على باب خيمتي مثلي مثل كل نساء العالم ولا أبالي لأنني أدرك تمامًا أنَّ كل هذا سيمضي يومًا ما، وبأن غزة ستبقى وسنبقى وسأبقى!ل
نور عبد اللطيف
8/9/2024
غزة - من قلب الإبادة